كان أحد الأعلام الأثبات، والعباد الزهاد، مع فقه في الدين، وورع مملوء باليقين.
وهو أحد أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما، وأوثقهم رواية عنه، وإن كان أقلهم رواية عنه، وأكثرهم دراية في تفسير كتاب الله. حتى وصفه بعض من أخذ العلم عنه وعاصره، بقوله: كان أعلمهم بالتفسير.
لقي الإمام مجاهد الأكابر من الصحابة؛ حيث روى عن ابن عباس، و ابن عمر، و جابر بن عبد الله، و أبي سعيد الخدري، و أبي هريرة، و رافع بن خديج رضي الله عنهم أجمعين، وحدث عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، إلا أن حديثه عنها مرسل؛ لأنه لم يسمع منها. وقد حدث عنه أعلام من كبار التابعين، منهم: عطاء، و طاوس، و عكرمة وغيرهم كثير.
وقد لازم الإمام مجاهد ابن عباس رضي الله عنهما مدة ليست بالقصيرة، وأخذ التفسير عنه رواية ودراية، لهذا وجدنا الإمام البخاري في "صحيحه" يعتمد عليه، وينقل عنه كثيراً من تفسير القرآن الكريم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مكانة الإمام مجاهد وعدالته عند أهل العلم وقبوله عندهم.
ومما يدل أيضًا على علو كعب أبي الحجاج - كما كان يكنى - وطول باعه في تفسير كتاب الله وفهمه له، ما رواه أبان بن صالح، عن مجاهد، أنه قال: عرضت القرآن على ابن عباس رضي الله عنهما ثلاث عرضات، أقفه عند كل آية، أسأله فيم نزلت؟ وكيف كانت؟ .
وروى ابن أبي مليكة، قال: رأيت مجاهداً سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله.
وروى أبو نعيم في (حلية الأولياء) عن الفضل بن ميمون، قال: سمعت مجاهدًا يقول: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين عرضة.
وقد أجمع معاصروه على مكانته العالية في معرفته بتفسير كتاب الله، حتى روي القول عن بعضهم: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به؛ وهذا ما دفع الإمام الذهبي أن يقول في آخر ترجمة مجاهد: أجمعت الأمة على إمامة مجاهد والاحتجاج به.
ويكفي لبيان مكانته ما ذكرناه من اعتماد الإمام البخاري على رواية مجاهد في كتاب التفسير من كتابه (الجامع الصحيح) وكذلك رواية أصحاب الكتب الستة عنه في كتبهم.
ونرى من المناسب أن ننقل بعضًا مما أُثر من أقوال هذا الإمام في التفسير؛ فمن ذلك قوله في قول الله تعالى: {وتبتل إليه تبتيلا} (المزمل: 8) قال: أخلص له إخلاصًا. وفي قوله تعالى: {وثيابك فطهر} (المدثر: 4) قال: وعملك فأصلح. وفي قوله سبحانه: {واسألوا الله من فضله} (النساء: 32) قال: ليس بعَرَض الدنيا.
وفي قوله تعالى: {والذي جاء بالصدق وصدق به} (الزمر: 33) قال: هم الذين يجيئون بالقرآن، يقولون: هذا الذي قد أعطيتمونا، قد اتبعنا ما فيه. أما قوله سبحانه: {ولا تنس نصيبك من الدنيا} (القصص: 77) فقال في تفسيره: خذ من دنياك لآخرتك، أن تعمل فيها بطاعته. وقوله سبحانه: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} (التكاثر: 8) قال: عن كل شيء من لذه الدنيا.
وفي قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} (البقرة: 238) قال: القنوت: الركوع، والخشوع، وغض البصر، وخفض الجناح من رهبة الله تعالى. قال: وكانت العلماء إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن عز وجل أن يشذ نظره، أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه بشيء من الدنيا، إلا ناسيًا ما دام في الصلاة.
وفي قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة} (مريم: 59) قال: عند قيام الساعة، وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم {واتبعوا الشهوات} قال: ينـ زوا بعضهم على بعض زناة في الأزقة.
وقوله سبحانه: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته} (البقرة: 81) قال في تفسير هذه الآية: الذنوب تحيط بالقلوب، كلما عمل ذنبًا ارتفعت حتى تغشى القلب، وحتى يكون هكذا، ثم قبض يده، ثم قال: هو الران.
وفي قوله تعالى: {فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب} (الشرح: 7- 8) قال: إذا فرغت من أمر الدنيا، فقمت إلى الصلاة، فاجعل رغبتك إليه، ونيتك له. وقوله تعالى: {وتقطعت بهم الأسباب} (البقرة: 166) قال في معناها: الأوصال التي كانت بينهم في الدنيا.
أما قوله تعالى: {ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (الأنعام: 153) فقال في معناها: إنها البدع والشبهات. وقوله تعالى: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} (لقمان: 20) قال: أما (الظاهرة) فالإسلام والرزق، وأما (الباطنة) فما ستر من العيوب والذنوب. وفي قوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن} (فصلت: 34) قال: هو السلام عليه إذا لقيته؛ وفي قول آخر له في معنى الآية نفسها، قال: المصافحة.
وتتبع أقوال هذا الإمام لا يمكن حصرها في مقال كهذا، وفي الأمثلة التي ذكرناها ما يدل على مكانة هذا الإمام، ومنزلته في علم التفسير.
على أن بعض أهل العلم قد لاحظ على منهج التفسير عند الإمام مجاهد أمرين:
أولهما: أنه كان يسأل أهل الكتاب عن تفسير بعض الآيات التي لم يثبت فيها نَقْل لديه.
والثاني: اعتماده الرأي أحياناً في فهم بعض نصوص القرآن الكريم؛ ولا يسعنا أن نفهم هذين المنهجين إلا على وفق ما يليق بمكانة هذا الإمام.
فسؤاله أهل الكتاب كان في حدود ما هو جائز ومشروع، ولم يتعدَّ ذلك إلى ما هو محظور وممنوع. كيف لا، وهو تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما، الذي كان يشدد النكير على من يأخذ عن أهل الكتاب، أو يصدقهم فيما يقولونه، إلا ما شهد له شاهد من الشرع.
وأما مسألة إعماله العقل في تفسير بعض الآيات، فحاصل القول فيها: إن كل الناس يؤخذ منه ويُرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عصمه الله عن الخطأ، وعلى هذا فإن هذا المنهج من مجاهد لا يقلل من القيمة العلمية لهذا الإمام، الذي أجمع الناس على إمامته في التفسير من غير منازع ولا مدافع.
ثم إن كتب التراجم قد ذكرت أن مولد هذا الإمام كان سنة إحدى وعشرين للهجرة، وتوفي بمكة سنة اثنتين ومائة، وتوفي وهو ساجد رحمه الله. قال ابن جريج: بلغ مجاهد يوم مات ثلاثًا وثمانين سنة.
بعد هذا نقول: إن من بين التفاسير التي كُتب لها أن تصل إلينا تفسير الإمام مجاهد، وهو تفسير مطبوع ومتداول بين أهل العلم، وهو أيضًا يدل على مكانة هذا الإمام؛ فما هذا التفسير وغيره من التفاسير، إلا أثر من آثار السلف الصالح، التي تدلنا على سيرهم المتواصل في حقل تبيينهم لكتاب ربهم.
وتدعونا إلى أن لا نألوا جهدًا في تدبر القرآن، ولا ندخر وسعًا لتفهم آياته، ونجتهد غاية الاجتهاد في سبيل هذا التبيان؛ قصدًا مخلصًا إلى الحق، فرب مبلغ أوعى من سامع.
المصدر: موقع إسلام ويب